واللهُ أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً عندما تشتد الحرب، ويحمى لهيبها، وتقترب نارها شيئا فشيئا من ...

واللهُ أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً


عندما تشتد الحرب، ويحمى لهيبها، وتقترب نارها شيئا فشيئا من المضارب، مهددة بحرق كل شيء، هنالك يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالا شديدا.

وهناك يختلط العرق المتصبّب من جباه المجاهدين وهم يقارعون المشركين، بدموعهم وهم يدعون ربّهم مخلصين له الدين، أن يكفّ عنهم بأس الذين كفروا، وينصرهم عليهم.

وهناك أيضا تتمحص القلوب، ويظهر الإيمان، فيثمر العمل الصالح ثباتا ويقينا، وينجم النفاق فتثمر المعاصي والذنوب انهزاما ونفاقا، وهناك أيضا يسأل الناس جميعا متى نصر الله.

وهناك يسمع أولياء الله من جديد كلام ربهم، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: 84]، ويعلم كل واحد منهم التوجيه الربّاني له إلى السبيل الوحيد لكف بأس الذي كفروا والتنكيل بهم، وهو القتال في سبيل الله، فينطلق إلى ساح الحتوف، سافر الوجه، ثابت الجنان، لا يلتفت إلى القاعدين والمخذلين، وكأن الآية ما نزلت إلا لتحرّضه وحده من دون العالمين، وإن التفت إلى إخوانه المجاهدين ألقى على أسماعهم أمر الله هذا لهم بأن يقاتل كل امرئ منهم في سبيل الله، محرضا لهم، وشادّا عزائمهم، مذكرا لهم بأن استجلاب نصر الله لا يكون إلا بطاعته فيما أمر بجهاد أعداء الله، وأما من عصاه ورضي أن يكون مع الخوالف فأنّى ينصره الله، وأنّى يُردّ عنه بأس الذين كفروا، وأنّى يرى بأس الله وتنكيله فيهم.

إن المؤمن يفرح عندما يرى أفعال جنود الخلافة في ولاياتها كافة وهم يصدّون الحملة الصليبية على الموصل، لا لأنه يرى حجم نكايتهم في المرتدين وحسب، ولكن لأنه يدرك أنهم فهموا سنّة الله في كسر صولة المشركين، وكفّ بأس الكافرين، واستجلاب النصر من الله ربّ العالمين، ألا وهو قتال جنود الطواغيت والإثخان فيهم، حتى يرتدوا على أعقابهم خائبين مدحورين، وقد طحنتهم المعارك، واستنفدت طاقاتهم وإمكانياتهم، وأهلكت جيوشهم، وأجبرتهم على التخندق خلف أسوارهم خائفين، لا يعرفون من أين سيخرج المجاهدون عليهم، أيصعدون إليهم من الأرض، أم ينزلون عليهم من السماء، وما ذلك على الله بعزيز.

فقد كانت حرب الصمود والاستنزاف التي يخوضها الثابتون على أطراف نينوى، وإغارات الانغماسيين التي قطعت قلوب مرتدي البيشمركة في كركوك، وغزوة فرسان الصحراء التي نزلت كالصاعقة على رؤوس الروافض والصحوات في الرطبة، والصولات المباركة التي أشغلت المشركين في الكسك وسنجار، وغيرها من أفعال الموحدين التي شهدناها خلال الأيام الماضية خير شاهد ودليل على أن البأس لا يردّ إلا بمثله، وأن إشغال الكفار بأنفسهم خير من تركهم لينشغلوا بنا، وأن ضربة في الظهر تساوي عشرات من مثيلاتها في الوجه أو الصدر، وأن الحرب خدعة.

هذا عدا عن التكاليف الباهضة التي تحملها الصليبيون والروافض خلال الأيام القليلة من الحملة، التي دفعتهم دفعا إلى تكذيب تصريحاتهم المتفائلة التي رافقت إعلانهم انطلاقها، إذ تبين لهم أن كل يوم من المعارك يكلفهم مائة قتيل على الأقل والملايين من الدولارات، وأن الحملة إن استمرت على هذه الحالة فلن تمضي شهورها إلا وقد أبيد جيشهم عن بكرة أبيه، وقد تكلفوا من الأموال أضعاف ما تكلفوه في كامل حملتهم ضد الدولة الإسلامية منذ بدايتها قبل عامين، فكيف إن عجزوا في النهاية عن تحقيق غايتهم، وهو ما سيكون، بإذن الله، وانقلب الأمر عليهم كرّة لجنود الخلافة لن تتوقف إلا على قمم جبال كردستان، وعلى شواطئ الخليج، بإذن الله تعالى.

فيا جنود الدولة الإسلامية، ويا أسود التوحيد، لقد رأيتم بأعينكم قبل غيركم كيف نصركم الله في أيام معدودة، فأوقفتم العالم كله على قدم واحدة وأنتم تنكلون بأعداء الله في قلب مدنهم المحصنة في كركوك والرطبة وغيرها، وحبستم أنفاس الطواغيت والمرتدين وهم يترقبون صولتكم التالية، فلا توقفوا ما بدأتموه، ولا تريحوا أعداءكم ساعة من نهار، ولا تأذنوا لهم بطرفة عين في ليل.

وليحرص كل منكم على أن يكون قتاله خالصا لوجه الله، وليحرّض المؤمنين على القتال، عسى الله أن يكفّ بقتالكم بأس الكافرين كما وعدكم، سبحانه، وعسى أن تستجلبوا بذلك نصر الله لكم وبأسه الشديد على عدوه وعدوكم، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 52
الخميس 26 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

السلطان محمود الغزنوي يمين الدولة وقامع البدعة (٢/٢) كما كان للسلطان مواقف مع الأشاعرة ...

السلطان محمود الغزنوي
يمين الدولة وقامع البدعة

(٢/٢)
كما كان للسلطان مواقف مع الأشاعرة الضُلال، منها ما ذكره الذهبي في «السير»، قال: «دخل ابن فورك على السلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه. فبهت ابن فورك».
وقال الذهبي أيضا: «قال: أبو الوليد سليمان الباجي: لما طالب ابن فورك الكرامية أرسلوا إلى محمود بن سبكتكين صاحب خراسان يقولون له: إن هذا الذي يؤلب علينا أعظم بدعة وكفرا عندك منا، فسله عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هل هو رسول الله اليوم أم لا؟ فعظم على محمود الأمر، وقال: إن صح هذا عنه لأقتلنه! ثم طلبه وسأله، فقال: كان رسول الله، وأما اليوم فلا. فأمر بقتله، فشفع إليه وقيل: هو رجل له سن. فأمر بقتله بالسم. فسُقي السم».

وقال ابن حزم: «حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الآن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا قول ذهب إليه الأشعرية، وأخبرني سليمان بن خلف الباجي -وهو من مقدميهم اليوم- أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسألة قتله بالسم محمود بن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله... ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه... فكذبوا القرآن في قول الله، عز وجل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}، وكذّبوا الآذان، وكذّبوا الإقامة التي افترضها الله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين، وكذّبوا دعوة جميع المسلمين التي اتفقوا على دعاء الكفار إليها وعلى أنه لا نجاة من النار إلا بها، وأكذبوا جميع أعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في إطباق جميعهم برّهم وفاجرهم على الإعلان بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ووجب على قولهم هذا الملعون أنه يُكذّب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم محمد رسول الله وأن الواجب أن يقولوا محمد كان رسول الله، وعلى هذه المسألة قَتل الأميرُ محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خراسان -رحمه الله- ابنَ فورك شيخ الأشعرية، فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن ابن فورك وأشياعه وأتباعه» [الفصل].
ولم يكن السلطان الغزنوي ليسكت عن دعاة الضلال وأهل الكلام.

وقد أثنى أبو العباس بن تيمية -رحمه الله- على السلطان الغزنوي، فقال: «ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه: كان الإسلام والسنة في مملكته أعز، فإنه غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة» [الفتاوى].

وقال رحمه الله: «وكان من خيار الملوك وأعدلهم وكان من أشد الناس قياما على أهل البدع» [منهاج السنة].

وهكذا كانت بركة مبايعة الإمام ومحاربة المبتدعة والزنادقة: تمكين ونصر على الأعداء، قال ابن كثير في أحداث (421 هـ): «لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل، الكبير المثاغر، المرابط المؤيد، المنصور المجاهد، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة وتلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر بدودهم وأوثانهم كسرا، وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهرا».

فهي شذرات من سيرة سلطان عادل، نصر التوحيد والسنّة، وقمع الشرك والبدعة، وحرص على تثبيت جماعة المسلمين في الوقت الذي انتصب لحرب الخلافة والعمل على إضعافها كثير من الفرق المبتدعة والطوائف الضالة، فكان لولاية السلطان محمود لأمير المؤمنين القادر دور كبير في قمع تلك الطوائف وإعادة الهيبة للخلافة القرشية.
وفي خراسان اليوم جيل من الموحّدين ممّن نصر الله بهم الإسلام وأهله، يحاربون الشرك، ويقمعون البدعة، ويعتصمون بالجماعة، نسأل الله أن يجعل على أيديهم فتح السند والهند من جديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 51
الخميس 19 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقل كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

السلطان محمود الغزنوي يمين الدولة وقامع البدعة (١/٢) دأب السلطان محمود الغزنوي -رحمه الله- على ...

السلطان محمود الغزنوي
يمين الدولة وقامع البدعة

(١/٢)
دأب السلطان محمود الغزنوي -رحمه الله- على تحطيم الأوثان وتدميرها، وقد ذكرنا ما فعل بها من الأفاعيل، وخصوصا تحطيمه أعظمها عند الهنود الوثنيين، وهو الصنم «سومنات»، وكان حرصه على التزام جماعة المسلمين، ومحاربة فرق الضلالة، كحرصه على سحق الشرك وأهله، وله في ذلك مواقف مشهورة سطّرها التاريخ.

ففي سنة (404 هـ) وبعد عودته من إحدى غزواته، راسل الخليفةَ العباسيَّ القادرَ بالله -رحمه الله- وطلب منه توليته على ما بيده، قال ابن الأثير: «فلما فرغ من غزوته عاد إلى غزنة وأرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشورا وعهدا بخراسان وما بيده من الممالك فكتب له ذلك»، ولم يكن السلطان الغزنوي بحاجة إلى هذا العهد والمنشور ليقوي سلطانه، ولكنه الحرص على أن يسير تحت ظل إمام قرشي يجتمع عليه المسلمون.

وقد زاد الخليفة من تشريفه فأضفى عليه الألقاب، قال ابن الجوزي: «وكان الخليفة قد بعث إليه الخلع، ولقبه بيمين الدولة وأمين الملة، ثم أضيف إلى ذلك نظام الدين ناصر الحق» [المنتظم].
ولم يكن يمين الدولة ليخرج عن طاعة الخليفة القرشي إلى طاعة غيره ممن ادّعوا الخلافة ظلما وزعموا النسب الفاطمي زورا، قال ابن كثير: «وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم، ويحرق كتبهم وهداياهم»، وقد قام يمين الدولة بإرسال أحد رسل الفاطميين وهداياهم إلى الخليفة العباسي لينظر في أمره، قال ابن الجوزي: «وأحضر أبو العباس ما كان حمله صاحب مصر، وأدى رسالة يمين الدولة بأنه الخادم المخلص الذي يرى الطاعة فرضا ويبرأ من كل ما يخالف الدولة العباسية، فلما كان فيما بعد هذا اليوم أُخرجت الثياب إلى باب النوبي، وحُفرت حفرة وطُرح فيها الحطب، ووُضعت الثياب فوقه وضربت بالنار».

وفي سنة (396 هـ)، سار يمين الدولة إلى «المولتان» (بـ «باكستان» اليوم) ليقضي على حاكمها القرمطي الملحد. قال ابن الأثير: «كان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نُقل عنه خبث اعتقاده، ونُسب إلى الإلحاد، وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه، فأجابوه. فرأى يمين الدولة أن يجاهده ويستنزله عما هو عليه، فسار نحوه، فرأى الأنهار التي في طريقه كثيرة الزيادة، عظيمة المد، وخاصة سيحون، فإنه منع جانبه من العبور فأرسل إلى أندبال [ملك هندي] يطلب إليه أن يأذن له في العبور ببلاده إلى المولتان، فلم يجبه إلى ذلك، فابتدأ به قبل المولتان، وقال: نجمع بين غزوتين»، وقد استطاع السلطان الغزنوي -بفضل الله- القضاء على أندبال والوصول إلى المولتان.
قال ابن الأثير: «ولما سمع أبو الفتوح بخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها ونازلها، فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون، فحصرهم، وضيق عليهم، وتابع القتال حتى افتتحها عنوة، وألزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبة لعصيانهم»، أي: مع توبتهم.
وقد كان السلطان محمود الغزنوي حريصا على طاعة الخليفة القرشي ومحاربة المبتدعة والزنادقة، ففي سنة (408 هـ) «امتثل يمينُ الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود بن سبكتكين أمرَ أمير المؤمنين، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها، في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام» [البداية والنهاية].

وفي سنة (420 هـ) سار يمين الدولة إلى الري، وبها «مجد الدولة» البويهي الرافضي فاقتلع ملكه وقضى عليه وعلى أجناده، وأرسل بالخبر إلى الخليفة القادر بالله، ومما جاء في رسالته كما ذكر ابن الجوزي: «وقد أزال الله عن هذه البقعة أيدي الظلمة وطهّرها من دعوة الباطنية الكفرة والمبتدعة الفجرة وقد تناهت إلى الحضرة المقدسة حقيقة الحال فيما قصر العبد عليه سعيه واجتهاده من غزو أهل الكفر والضلال وقمع من نبغ ببلاد خراسان من الفئة الباطنية الفجار، وكانت مدينة الري مخصوصة بالتجائهم إليها وإعلانهم بالدعاء إلى كفرهم، فيها يختلطون بالمعتزلة المبتدعة والغالية من الروافض المخالفة لكتاب الله والسنة يتجاهرون بشتم الصحابة ويرون اعتقاد الكفر ومذهب الإباحة».

• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 51
الخميس 19 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقل كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً لقد ضبط الشارع الحكيم عقد النكاح بضوابط وجعل لتمام ...

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً

لقد ضبط الشارع الحكيم عقد النكاح بضوابط وجعل لتمام صحته شروطا وواجبات، ومن بين تلك الواجبات المهر أو الصداق، وقد دل على مشروعية المهر الكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال أيضا: {فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وأما السنة فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني وهبت من نفسي؛ فقامت طويلا، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة؛ قال: (هل عندك من شيء تصدقها؟) قال: ما عندي إلا إزاري؛ فقال: (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا)؛ فقال: ما أجد شيئا؛ فقال: (التمس ولو خاتما من حديد)؛ فلم يجد، فقال: (أمعك من القرآن شيء؟) قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال: (قد زوجناكها بما معك من القرآن)» [متفق عليه].

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع، فقال: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها؛ فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق؟ فدلوه، فانطلق، فما رجع إلا ومعه شيء من أقط وسمن قد استفضله، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك وعليه وضر من صفرة فقال: (مهيم؟) قال: تزوجت امرأة من الأنصار؛ قال: (ما أصدقتها؟) قال: نواة من ذهب -قال حميد: أو وزن نواة من ذهب- فقال: (أولم ولو بشاة)» [متفق عليه].

وأما الإجماع فقد ذكره غير واحد من الفقهاء؛ قال القرطبي في تفسيره: «قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه».

والمهر قد يكون معجّلا فيدفعه الزوج للزوجة قبل الدخول بها، وقد يكون مؤجّلا فيدفعه لها بعد الدخول، وقد يكون مبعّضا أي يدفع لها بعضا منه قبل البناء على أن يدفع لها بقيته بعد الدخول بها؛ قال ابن قدامة: «ويجوز أن يكون الصداق معجلا، ومؤجلا، وبعضه معجلا وبعضه مؤجلا، لأنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن» [المغني]. غير أنه لا يجوز للزوج تأجيل المهر ولا تبعيضه إلا بموافقة الزوجة ورضاها عن طيب خاطر لا غصبا.

وللزوجة أن تمتنع عن زوجها حتى تستلم صداقها كاملا؛ قال ابن قدامة: «فإن منعت نفسها حتى تتسلم صداقها، وكان حالا، فلها ذلك. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها، حتى يعطيها مهرها. وإن قال الزوج: لا أسلم إليها الصداق حتى أتسلمها. أجبر الزوج على تسليم الصداق أولا، ثم تجبر هي على تسليم نفسها» [المغني].

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن عليا قال: تزوجت فاطمة، فقلت: يا رسول الله، ابن لي؛ قال: (أعطها شيئا)؛ قال: ما عندي شيء؛ قال: (فأين درعك الحطمية؟) قلت: عندي؛ قال: (فأعطها إياه)» [رواه أبو داود والنسائي].

ثم إن هذا المهر وإن لم يدفعه الزوج قبل الدخول بزوجته -برضاها كما أسلفنا- يبقى دينا عليه يجب الوفاء به متى قدر على ذلك، ولا يجوز له بحال المماطلة في سداد هذا الدين أو الامتناع عنه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مطل الغني ظلم) [متفق عليه]، خاصة إذا باتت الزوجة تحت يده وقد أتى منها ما يأتي الرجل من المرأة، فيستضعفها حينها ناسيا أو متناسيا ما جاء في الحديث عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) [متفق عليه].

وقد غلَّظ الشارع في الزجر عن سلب المرأة مهرها عنوة، قال ابن كثير، رحمه الله: «وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، أي: لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} يقول: ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ} يعني: الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي».

ولم يحرم الشرع أخذ مهر الزوجة كرها فقط، بل حتى وإن كانت الزوجة موسرة ذات مال، فيحرم على الزوج أن يأخذ فلسا واحدا من مالها غصبا ودون رضاها وإن كان ذلك بقصد الإنفاق على البيت والأبناء الذين هم أبناؤها، أما إن رضيت ووهبته عن طيب خاطر، فهنيئا مريئا، مصداقا لقول الله، عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

وإنَّ المرأة إن احتسبت ما تنفقه على زوجها وأولادها من مالها، فإنه لها من أعظم الصدقات أجرا، كما روى الشيخان عن زينب امرأة ابن مسعود -رضي الله عنهما- أنها قالت لبلال، رضي الله عنه: «سل النبي -صلى الله عليه وسلم- أيجزي عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري؟» فحينما سأله، أجاب النبي، صلى الله عليه وسلم: (نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة)».

وللمسلمة في أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- خير مثال، فقد جعلت مالها كله في يد زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفق منه على نفسه، وعلى إخوانه.

يقول بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]؛ أي أغناك بمال خديجة بنت خويلد، ومعلوم أن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- كانت من أشراف قريش وأوفرهم مالا، وحينما منَّ الله -عز وجل- عليها بالزواج من سيد الأنام، لم تبخل عليه بمالها، قال صاحب «أضواء البيان»: «قال النيسابوري ما نصه: يروى أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: ما لك؟ فقال: (الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحيي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله)، فدعت قريشا وفيهم الصديق، قال الصديق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي؛ ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرقه، وإن شاء أمسكه».

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد عرف لها ذلك حتى بعد موتها -رضي الله عنها- فقد روى أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحَسَنَ الثناء، فغرتُ يوما، فقلت: ما أكثرَ ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله -عز وجل- بها خيرا منها؛ قال: (ما أبدلني الله -عز وجل- خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -عز وجل- ولدها إذ حرمني أولاد النساء)».

هذه أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- تعطي المال دون منٍّ أو أذى -حاشاها- ولا تذكِّر زوجها بسبب ومن دون سبب بما تعطيه إياه ولا تعيّره، ولا تطالبه عند الغضب بما وهبته إياه عند الرضا، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)» [متفق عليه].
ويوم قدّر الله تعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه أن يُحاصَروا في شعب أبي طالب لسنين، تركت خديجة مالها وكل ما تملك واختارت الله ورسوله، فلله درها ولله در كل كريمة لها فنع في الجود، همها إسعاد معسر بعد رضا المعبود. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 51
الخميس 19 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً لقد ضبط الشارع الحكيم عقد النكاح بضوابط وجعل لتمام ...

وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً

لقد ضبط الشارع الحكيم عقد النكاح بضوابط وجعل لتمام صحته شروطا وواجبات، ومن بين تلك الواجبات المهر أو الصداق، وقد دل على مشروعية المهر الكتاب والسنة والإجماع.

فأما الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال أيضا: {فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وأما السنة فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني وهبت من نفسي؛ فقامت طويلا، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة؛ قال: (هل عندك من شيء تصدقها؟) قال: ما عندي إلا إزاري؛ فقال: (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا)؛ فقال: ما أجد شيئا؛ فقال: (التمس ولو خاتما من حديد)؛ فلم يجد، فقال: (أمعك من القرآن شيء؟) قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال: (قد زوجناكها بما معك من القرآن)» [متفق عليه].

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع، فقال: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها؛ فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق؟ فدلوه، فانطلق، فما رجع إلا ومعه شيء من أقط وسمن قد استفضله، فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك وعليه وضر من صفرة فقال: (مهيم؟) قال: تزوجت امرأة من الأنصار؛ قال: (ما أصدقتها؟) قال: نواة من ذهب -قال حميد: أو وزن نواة من ذهب- فقال: (أولم ولو بشاة)» [متفق عليه].

وأما الإجماع فقد ذكره غير واحد من الفقهاء؛ قال القرطبي في تفسيره: «قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه».

والمهر قد يكون معجّلا فيدفعه الزوج للزوجة قبل الدخول بها، وقد يكون مؤجّلا فيدفعه لها بعد الدخول، وقد يكون مبعّضا أي يدفع لها بعضا منه قبل البناء على أن يدفع لها بقيته بعد الدخول بها؛ قال ابن قدامة: «ويجوز أن يكون الصداق معجلا، ومؤجلا، وبعضه معجلا وبعضه مؤجلا، لأنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن» [المغني]. غير أنه لا يجوز للزوج تأجيل المهر ولا تبعيضه إلا بموافقة الزوجة ورضاها عن طيب خاطر لا غصبا.

وللزوجة أن تمتنع عن زوجها حتى تستلم صداقها كاملا؛ قال ابن قدامة: «فإن منعت نفسها حتى تتسلم صداقها، وكان حالا، فلها ذلك. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها، حتى يعطيها مهرها. وإن قال الزوج: لا أسلم إليها الصداق حتى أتسلمها. أجبر الزوج على تسليم الصداق أولا، ثم تجبر هي على تسليم نفسها» [المغني].

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن عليا قال: تزوجت فاطمة، فقلت: يا رسول الله، ابن لي؛ قال: (أعطها شيئا)؛ قال: ما عندي شيء؛ قال: (فأين درعك الحطمية؟) قلت: عندي؛ قال: (فأعطها إياه)» [رواه أبو داود والنسائي].

ثم إن هذا المهر وإن لم يدفعه الزوج قبل الدخول بزوجته -برضاها كما أسلفنا- يبقى دينا عليه يجب الوفاء به متى قدر على ذلك، ولا يجوز له بحال المماطلة في سداد هذا الدين أو الامتناع عنه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مطل الغني ظلم) [متفق عليه]، خاصة إذا باتت الزوجة تحت يده وقد أتى منها ما يأتي الرجل من المرأة، فيستضعفها حينها ناسيا أو متناسيا ما جاء في الحديث عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) [متفق عليه].

وقد غلَّظ الشارع في الزجر عن سلب المرأة مهرها عنوة، قال ابن كثير، رحمه الله: «وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، أي: لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} يقول: ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ} يعني: الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي».

ولم يحرم الشرع أخذ مهر الزوجة كرها فقط، بل حتى وإن كانت الزوجة موسرة ذات مال، فيحرم على الزوج أن يأخذ فلسا واحدا من مالها غصبا ودون رضاها وإن كان ذلك بقصد الإنفاق على البيت والأبناء الذين هم أبناؤها، أما إن رضيت ووهبته عن طيب خاطر، فهنيئا مريئا، مصداقا لقول الله، عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

وإنَّ المرأة إن احتسبت ما تنفقه على زوجها وأولادها من مالها، فإنه لها من أعظم الصدقات أجرا، كما روى الشيخان عن زينب امرأة ابن مسعود -رضي الله عنهما- أنها قالت لبلال، رضي الله عنه: «سل النبي -صلى الله عليه وسلم- أيجزي عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري؟» فحينما سأله، أجاب النبي، صلى الله عليه وسلم: (نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة)».

وللمسلمة في أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- خير مثال، فقد جعلت مالها كله في يد زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفق منه على نفسه، وعلى إخوانه.

يقول بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]؛ أي أغناك بمال خديجة بنت خويلد، ومعلوم أن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- كانت من أشراف قريش وأوفرهم مالا، وحينما منَّ الله -عز وجل- عليها بالزواج من سيد الأنام، لم تبخل عليه بمالها، قال صاحب «أضواء البيان»: «قال النيسابوري ما نصه: يروى أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: ما لك؟ فقال: (الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحيي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله)، فدعت قريشا وفيهم الصديق، قال الصديق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي؛ ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرقه، وإن شاء أمسكه».

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد عرف لها ذلك حتى بعد موتها -رضي الله عنها- فقد روى أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر خديجة أثنى عليها، فأحَسَنَ الثناء، فغرتُ يوما، فقلت: ما أكثرَ ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك الله -عز وجل- بها خيرا منها؛ قال: (ما أبدلني الله -عز وجل- خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله -عز وجل- ولدها إذ حرمني أولاد النساء)».

هذه أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- تعطي المال دون منٍّ أو أذى -حاشاها- ولا تذكِّر زوجها بسبب ومن دون سبب بما تعطيه إياه ولا تعيّره، ولا تطالبه عند الغضب بما وهبته إياه عند الرضا، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)» [متفق عليه].
ويوم قدّر الله تعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه أن يُحاصَروا في شعب أبي طالب لسنين، تركت خديجة مالها وكل ما تملك واختارت الله ورسوله، فلله درها ولله در كل كريمة لها فنع في الجود، همها إسعاد معسر بعد رضا المعبود. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 51
الخميس 19 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

صهيب المدائني أنا فارس لا أنثني.. لا أنحني وبلاء ربّي زادني إيمانا إن الجهاد في سبيل الله ...

صهيب المدائني

أنا فارس لا أنثني.. لا أنحني
وبلاء ربّي زادني إيمانا

إن الجهاد في سبيل الله نعمة من النعم، لا يعرفها كثير من الناس، أما من ذاق حلاوتها، وعرف حقيقة الولاء والبراء، وجرب النكاية في الكفار والمرتدين، فلا يصبر عن مواطن النزال، ولا يأنس إلا بعشرة الموحّدين الأبطال.

فإن أصابته جراحات في سبيل الله استعجل الشفاء، وإن حبسه الأسر سعى في فكاك أسر نفسه، وإن عجز عن الجهاد في مكان هاجر إلى موطن آخر من مواطن العبودية لله، وشعاره في كل موقعة:

أكر على الكتيبة لا أبالي
أفيها كان حتفي أم سواها

ومن هؤلاء الأبطال المجاهدين الذين عشقوا التعرض للمنايا، وألفوا مقارعة الحتوف، الشهيد -كما نحسبه، والله حسيبه- صهيب المدائني، تقبله الله.

ولد -رحمه الله- في مدينة المدائن جنوب بغداد، وعاش فيها، ولما خطى على درب الجهاد كانت خطواته الأولى في مدينة بغداد حيث العمل مع دهاة الأمنيين، وأخطر فرسان الكواتم والعبوات، فأنكى في الروافض أيّما نكاية، حتى قدر الله وقوعه في أيديهم، فلم يطل به المقام في الأسر حتى استطاع أن يفك قيده ويهرب من قبضتهم، ليكمل مشواره الجهادي في ولاية كركوك، التي كان العمل فيها لا يقل خطورة عن العمل في بغداد، وذلك بسبب التشديد الأمني الكبير لمخابرات البيشمركة والقوات الرافضية التي تتقاسم السيطرة على المنطقة.

عمل صهيب في أحد قواطع مدينة كركوك، حيث مزّق المرتدين بالعبوات، وقطف رؤوسهم بالاغتيالات، وهز أركانهم بالعمليات الاستشهادية التي كان يشرف عليها ويديرها، مع مفرزة من جنود الدولة الإسلامية.

خرج في أحد أيام جهاده إلى موعد مع أخ من جنوده، وحين وصل مع أخ آخر إلى مكان الموعد، وهو محطة وقود على طريق (بغداد - كركوك) فوجئ بمرتدي البيشمركة يحاصرونه بأعداد كبيرة ويطلبون منه أن ينبطح أرضا ليقيدوه، ورغم أنه كان أعزل من السلاح إلا أنه رفض الانصياع لهم، عزة عليهم وأنفة من الخضوع لهم، وهم يحيطون به يشهرون أسلحتهم باتجاهه دون أن يجرؤ أي منهم على التقدم نحوه وتقييده، فبادر هو بالهجوم عليهم وحاول سحب بندقية أحدهم من بين يديه، ليشتبك بها معهم ويفك نفسه وإخوانه من الأسر، وأثناء تنازعهما على السلاح تكالب عليه جنود الطاغوت وأسقطوه أرضا محاولين تقييده وهو يصارعهم، حتى أطلقوا النار على قدميه، ليحملوه مقيدا إلى المستشفى بعد أن صار عاجزا عن الحركة.

بعد خروجه من العملية بدأ ضباط المخابرات بالتحقيق معه وهو في المستشفى مستخدمين قدميه المصابتين وسيلة لتعذيبه عن طريق تحري مواضع الألم فيهما بالتحريك والضغط، وأثناء هذه الفترة جاء وفد من ضباط مخابرات الحكومة الرافضية من بغداد للتعرف عليه والتحقيق معه، وعندما عرفوه لاموا مرتدي مخابرات البيشمركة لأنهم لم يقتلوه أثناء الاعتقال، وعرّفوهم بما نفّذه من عمليات في بغداد قبل انتقاله إلى كركوك، وبيّنوا لهم صدور حكم إعدام غيابي بحقّه بعد هروبه من اعتقاله الأول في بغداد.

بعد فترة من العلاج نُقل صهيب إلى أحد السجون السرية لمرتدي «إقليم كردستان» في منطقة السليمانية، ليجد أمامه في السجن أخويه الذين اعتقلا معه.

قضى أول شهرين من اعتقاله وحيدا في محجر انفرادي رغم عجزه عن الحركة، وحداثة إصابته وحاجته إلى المعين، ثم يسّر الله أن نُقل أخواه إلى محجره بعد ذلك ليساعداه على قضاء حوائجه، ومنذ اليوم الأول لاجتماعهم من جديد بدؤوا التفكير بإنقاذ أنفسهم من الأسر، والعودة إلى مراغمة المرتدين، ولكن الأمر كان من الصعوبة بمكان، ففضلا عن كون جدران المحجر ونوافذه محصنة بالحديد، كان سجنهم على أطراف قطعة عسكرية لمرتدي البيشمركة، وبالتالي يجب عليهم عبورها حتى يصلوا إلى مناطق آمنة.

ولكن فكرة فكاك أسرهم لما تفارق أذهانهم، وبقوا يدعون الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، حتى جاءت بوادر الفرج من الله بعد سبعة أشهر من اجتماعهم في المحجر، كانوا قد تعاهدوا على استغلالها بحفظ كتاب الله، وقضوا لياليها قياما ودعاءا.

إذ أخرج السجانون الأخوين المرافقين لصهيب ليكلفوهما بأعمال السخرة، ومن بينها تنظيف مخزن قديم للمرتدين، فوجد أحدهم أثناء تنظيف المخزن قطعة من منشار خبأها تحت ملابسه وعاد بها إلى المحجر، ليفرح بها أخواه، إذ صار بأيديهم أول مفاتيح الفكاك من الأسر، حين صار بإمكانهم أن يقطعوا قضبان النافذة الحديدية التي تحجزهم عن العالم.

تم تأجيل العمل على خطة الهروب لبعض الوقت، لأن زنزانتهم كانت قريبة من غرفة السجانين، وكان نشر قضبان الحديد سيحدث صوتا قويا لا يمكن إخفاؤه، فكان مفتاح الفرج الثاني جرافة أحضرها مرتدو البيشمركة للقيام ببعض الإنشاءات في القطعة العسكرية الواقعة خلف مبنى السجن، فاستغل الإخوة صوت الجرافة المرتفع للتغطية على صوت نشر القضبان الحديدية، حتى انتهوا منها بعد 5 أيام من العمل وتركوا من كل واحد منها جزءا يمكنهم كسره بأيديهم عندما تحين ساعة التنفيذ.

ثم قرر الإخوة تنفيذ الخطوة الأخيرة، فكسروا القضبان، وخرجوا من النافذة بعد منتصف الليل يحملون معهم ما توفر بأيديهم من كِسَر الخبز ليتزودوا بها على الطريق، حيث وجدوا أنفسهم في قلب معسكر البيشمركة، فانطلقوا نحو السياج المحيط به متوكلين على الله، فلم ينتبه لهم المرتدون، ثم أكملوا مسيرهم لسبعة أيام يمشون في الليل وينامون في النهار مخافة أن يُكشف أمرهم، ولم يكن بإمكانهم الإسراع في المسير بسبب ما ألمّ بصهيب من إصابة.

على أطراف مدينة جمجمال فارقهم أحد الإخوة ليجد حيلة للدخول إلى المدينة التي يعرف فيها صديقا علّه يجد عنده المال واللباس لإخوانه، فلما تأخر عليهما خافا أن يكون قد سقط بيد المرتدين من جديد، فيدلهم على مكانهما فاستعجلا المسير إلى كركوك، حيث قدر الله لهم أن وجدوا في طريقها من تصدّق عليهم ببعض المال والطعام لما رأى حالتهما الرثة، فاستقلا بذلك المال حافلة إلى مدينة كركوك.

على بوابات المدينة أوقفهم مرتدو البيشمركة من جديد ومنعوهم من الدخول إليها لأنهم لا يحملون بطاقات هوية، وأصروا على عودتهم من حيث جاؤوا رغم ما ادعوه بأنهم تعرضوا للسلب من اللصوص وفقدوا أموالهم وثبوتياتهم.

رقم هاتف أحد الإخوة كان صهيب ما زال يحتفظ به في ذاكرته أنقذهم هذه المرة، إذ اتصل به صهيب وأخبره بحاله ومن معه، فخرج إليهما، وأدخلهما إلى مدينة كركوك، لتكون فرحة عظيمة للإخوة فيها، وخاصة لوالي كركوك الشيخ أبي فاطمة، تقبله الله، وهناك لحق بهم أخوهم الثالث، بعد أن أصابه -بدوره- القلق، عندما لم يجدهم في مكانهم الأول قرب جمجمال.

عاد صهيب بعكازيه إلى الساحة من جديد، ليعمل في ورشة التفخيخ التابعة لولاية كركوك، حتى كان الفتح، لتتغير بعد ذلك طبيعة عمله.

ولم يطل به المقام حتى اختير أميرا عسكريا لجيش الخلافة في الولاية، بعد مقتل أميرها الأسبق أبي عبد الناصر -تقبله الله- وصار يشارك بنفسه في ملاحمها، وقاد إخوانه في كثير من المعارك ضد الرافضة والبيشمركة، على رأسها معارك (مكتب خالد)، وغزوة الفتح المبين، حتى قتل في معارك حقول علاس وعجيل في شهر رجب من عام 1436 هجرية.

وهكذا طويت صفحة فارس شهم أبيّ من فرسان دولة الإسلام، لم يسكن عن جهاد المرتدين، ولم يتعب من السجون والأسفار، حتى أناخ ركابه على أبواب الجنة، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 51
الخميس 19 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

السلطان محمود الغزنوي محطم الأوثان وناصر السنة (٢/٢) أما أعظم فتوحات هذا السلطان في تحطيم ...

السلطان محمود الغزنوي محطم الأوثان وناصر السنة

(٢/٢)
أما أعظم فتوحات هذا السلطان في تحطيم الأصنام وأعظمها أثرا هو هدمه لمعبود الوثنيين الأعظم الصنم (سومنات) سنة (416 هـ)، قال ابن الأثير في وصفه: «وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان... وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس، ويعطون سدنته كل مال جزيل، وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية».

ولم يكن ما دعا السلطان لتكلف المشقة في غزوه وهدمه هو ما فيه من مال وذخائر، ولكنه أراد قطع دابر عبادة الأصنام بهدم سيدها عند الهنود، قال ابن الأثير: «كان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحا، وكسر صنما يقول الهنود: إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه وإهلاكه ظنا منه أن الهنود إذا فقدوه، ورأوا كذب ادعائهم الباطل، دخلوا في الإسلام فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة، في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة».

وأما الطريق للوصول إلى هذا الصنم فكان شاقا خطرا لأنه يقتضي عبور الصحراء، ولكن كل هذه المخاطر لم تثن عزم السلطان الموحّد عن هدم هذا الوثن. قال ابن الأثير: «فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصونا مشحونة بالرجال، وعندها آبار قد غوروها ليتعذر عليه حصرها، فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، وتَسلَّمها، وقتل سكانها وأهلك أوثانها، وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه»، وقد وصل السلطان إلى سومنات بعد قفار قطعها وأقوام حاربهم وحصون حاصرها، قال ابن الأثير: «فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة فرأى حصنا حصينا مبنيا على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين، واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم»، وهكذا هي عقلية عُبّاد الأوثان ولكن أنّى لهم الوقوف أمام جند التوحيد الذين يجاهدون في سبيل الله ليطهروا الأرض من رجس الشرك وأهله.

يروي لنا ابن الأثير تفاصيل المعركة، وصدمة الوثنيين بعدم تحريك معبودهم أي ساكن أمام من جاء يهدمه ويحطمه، وهم الذين عقدوا عليه الآمال وزعموا أن ما فني من أصنامهم بسبب غضب هذا المعبود عليه، لكونهم يؤمنون أن معبوداتهم تتقاتل فيما بينها، قال ابن الأثير: «فرأى الهنود من المسلمين قتالا لم يعهدوا مثله، ففارقوا السور فنصب المسلمون عليه السلالم، وصعدوا إليه وأعلنوا بكلمة الإخلاص، وأظهروا شعار الإسلام، فحينئذ اشتد القتال، وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات، فعفروا له خدودهم، وسألوه النصر، وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض، فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود القتل، وأجلوهم عن المدينة إلى بيت صنمهم سومنات، فقاتلوا على بابه أشد قتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا، حتى كاد الفناء يستوعبهم، فبقي منهم القليل، فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجوا فيهما، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضا وغرق بعض»، وأما مصير الصنم سومنات، «فأخذه يمين الدولة فكسره، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة الجامع»، فأُهين الصنم أيّما إهانة بعد تحطيمه.

وقد غنم المسلمون في هذه الغزوة ما عوضوا به ما أنفقوه في جهادهم رزقا من الله -عز وجل- قال ابن الأثير: «وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار، فأخذ الجميع، وكان عدد القتلى يزيد على خمسين ألف قتيل».

واستمر السلطان محمود الغزنوي في جهاده حتى توفاه الله –عز وجل- سنة (421 هـ)، وقد كان لعمله وجهاده في الهند -رحمه الله- أثر كبير في استقرار الإسلام في الهند قرونا طويلة، وكذلك كان لهدمه صنمهم سومنات أثر كبير على الوثنيين، ولم يتوقف حرص السلطان الغزنوي وجهاده في سبيل الله على قتال المشركين، بل كان أيضا سيفا مسلطا على رقاب المبتدعة والزنادقة الباطنيين، فقمع البدعة وأحيى السنة، وارتفع الأثر في عهده رحمه الله.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

السلطان محمود الغزنوي محطم الأوثان وناصر السنة (١/٢) إن كسر الأوثان وتحريقها صورة من صور الكفر ...

السلطان محمود الغزنوي محطم الأوثان وناصر السنة

(١/٢)
إن كسر الأوثان وتحريقها صورة من صور الكفر بالطاغوت حرص عليها الأنبياء من لدن خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- وتبعه على ذلك كليم الله موسى -عليه السلام- في تحريقه لعجل بني إسرائيل المعبود، وكذلك خاتم النبيين محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي حطّم أصنام العرب في مكة، وحرّق وهدّم اللات والعُزّة ومناة وهبل وغيرها من الأوثان، وعلى ذلك سار الصحابة والتابعون ومن سار على هديهم إلى يومنا هذا.
وإننا نجد في قصص السابقين مَن اتبع الأنبياء -عليهم السلام- جاعلا تحطيم أصنام المشركين أعظم هدف له في الحياة، فيسعى إليه، ويقاتل فيه، ويقطع للوصول إليه المفاوز، ويجتاز إليه المهالك، ومنهم الغازي محمود بن سبكتكين -رحمه الله- الذي لقبه الناس بمحطّم الأصنام لكثرة ما حطم منها، ولعظم الأصنام التي حطمها، وإن كانت هذه واحدة من مآثر كثيرة أخرى كنصرته للسنة وقمعه للبدعة وحرصه على وحدة صف المسلمين ببيعته للخليفة العباسي، وطاعته له.

ولد السلطان محمود بن سبكتكين في المحرم من سنة (360 هـ) في مدينة غزنة من أرض خراسان، وقد استقر له الحكم بعد وفاة أبيه سنة (387 هـ)، ثم تفرّغ بعدها لجهاد المشركين في الهند وتحطيم أصنامهم، ونشر الإسلام في بلادهم.

ففي سنة (396 هـ) سار السلطان محمود الغزنوي إلى قلعة (كواكير) وكان بها ستمائة صنم للوثنيين، فافتتحها وأحرق الأصنام فيها [انظر: الكامل لابن الأثير].

وفي سنة (398 هـ) عاد الغزنوي مجددا ليغزو بلاد الهند، قال ابن الأثير: «فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك إبرهمن بال بن إندبال في جيوش الهند، فاقتتلوا مليا من النهار وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصره عليهم، فظفر بهم المسلمون فانهزموا على أعقابهم، وأخذهم المسلمون بالسيف، وتبع يمين الدولة أثر إبرهمن بال، حتى بلغ قلعة بهيم نغر، وهي على جبل عال كان الهند قد جعلوه خزانة لصنمهم الأعظم... فلما رأى الهنود كثرة جمعه، وحرصهم على القتال، وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى، خافوا وجبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، وملك المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ منها من الجواهر ما لا يُحدّ، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية»، فأذل الله المشركين وطواغيتهم، وكُسرت الأوثان والأصنام، وغنم المسلمون ما كان يُنذر لصنم الهند الأعظم من المعادن والجواهر.
وكذلك فعل السلطان الغزنوي سنة (400 هـ) إذ سار في بلاد الهند مستبيحا لها منكسا وهادما للأصنام فيها، وفي سنة (405هـ) سار السلطان لغزو (تانيشر) كما سماها ابن الأثير أو (تهانسير) كما تسمى اليوم، قال ابن الأثير: «فلما قاربوا مقصدهم لقوا نهرا شديد الجرية، صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه، يمنع من عبوره، ومعه عساكره وفيَلته التي كان يدل بها. فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، وإشغال الكافر بالقتال ليتمكن باقي العسكر من العبور، ففعلوا ذلك، وقاتلوا الهنود، وشغلوهم عن حفظ النهر، حتى عبر سائر العسكر في المخاضات، وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار، فانهزم الهند، وظفر المسلمون، وغنموا ما معهم من أموال وفيلة».

وقد ذكر بعض المؤرّخين أن ملكا من ملوك الهند عرض على السلطان الكفّ عن هدم أوثانهم ومعابدهم، قائلا: «أعلم أن ذلك شيء تتقربون به إلى ربكم، ولكن أما كفاكم ما تقربتم به من هدم الأصنام والمعابد، لا سيما في قلعة نكركرت؟» ووعده ببذل الأموال الكثيرة له، فأبى السلطان ذلك ورفض ما عنده وبيّن أن قتالهم هو لإعلاء كلمة الله ولنيل رضوانه، لا من أجل الدنيا الفانية، ثم أسرع السلطان إلى المعبد ليُحطّم أصنامهم، إلا صنما واحدا، أخذه معه ليُداس في بلده.

وفي سنة (407 هـ) كان من جملة فتوحات السلطان وصوله إلى معبد من أحصن الأبنية، قال ابن الأثير: «ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفا وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج... وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذبا منهم وزورا، ولما فتحها أباحها عسكره».


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ (٢/٢) ولتتأمل الأخت المسلمة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه ...

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ

(٢/٢)
ولتتأمل الأخت المسلمة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو داود وغيره، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)، هذا المسجد بيت الله وأحب البقاع إليه سبحانه، وهذه الصلاة عمود الدين، ومع ذلك لا يلزم الشارع المرأة بصلاة الجماعة التي أوجبها في حق الرجل، وإنما يجعل من صلاتها في بيتها –بل، وفي حجرتها- خير ا لها من خروجها لتشهد الجماعة في المسجد، وما ذاك إلا زيادة في صيانة المرأة وحجبها عن الأنظار ما استطيع إلى ذلك سبيلا.

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المرأة عورة، فإذا خرجت، استشرفها الشيطان) [رواه الترمذي].

ولا تحسبن المسلمة الملتزمة بالحجاب الشرعي أن خمارها ينأى بها عن هذا الحديث، وأن المرأة تكون فقط عورة إذا كانت سافرة أو متبرجة، بل هي عورة متى ما خرجت من بيتها، وإن كان لا يبدو منها شيء، ورحم الله التابعي الجليل سفيان الثوري إذ يقول: «ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا»! [الطحاوي: مختصر اختلاف العلماء].

فمجرد خروجها من بيتها قد تكون فيه فتنة عليها أو على الرجال الذين يرونها، خاصة إن تكلمت معهم، لذلك قال الله تعالى لنساء النبي، صلى الله عليه وسلم: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، والخضوع بالقول يعني التكسر عند الكلام وترقيق الصوت، فتكون نتيجة ذلك: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، فيطمع الذي في قلبه مرض في قرن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام -رضي الله عنهم- خير القرون على الإطلاق، فكيف بزماننا هذا؟ زمان الفتن والموبقات. عن يحيى بن سعيد، «عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء، لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل. قلت لعمرة: أَوَمُنعن؟ قالت: نعم» [متفق عليه]؛ سبحان الله! هذا ما توصلت إليه عائشة الفقيهة المحدّثة مما رأته من المُحْدَثات والتجاوزات من بعض نساء عصرها، فماذا لو أدركت الصدّيقة زماننا هذا، بل ماذا لو يرى نبينا -صلوات ربنا وسلامه عليه- ما عليه نساء اليوم، إلا من عصم الله؟!

وحريّ ببعض الحائمين حول حمى الشبهات ومراتعها أن يضعوا حديث أم المؤمنين السالف ذكره نصب أعينهم وهم يفتون في بعض أحكام النساء، حتى أصبحت المرأة تخرج دون ضابط، ولو أن تخرج في اليوم الواحد مرات ومرات فلها ذلك، بل وإن كانت معتدة عدة وفاة، فلا ضير في خروجها في غير حاجة ولا مصلحة ولا ضرورة، والله المستعان.

وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن خروج النساء في العيدين فأجاب: «لا يعجبني ذلك»، وقال ابن المبارك، رحمه الله: «أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين»، وقال أبو حنيفة: «كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد، فأما اليوم فإنني أكرهه».

فإذا كان هؤلاء الفقهاء قد كرهوا خروج المرأة لأداء شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام درءاً لمفاسد قدّروها حينها، فكيف بخروجها المتكرر في أيامنا هذه حتى أصبحت خرّاجة ولّاجة؟

ومن اللطائف القرآنية في قول الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، أن الله تعالى قد وصف الحور في الجنة بالقصور، قال القرطبي: «{مَقْصُورَاتٌ} محبوسات مستورات، {فِي الْخِيَامِ} في الحجال، لسن بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس»، هذا والجنة فيها الكمال فلا فتن ولا زيغ ولا ضلال، ومع ذلك تحبس الحور على أزواجهن، فلا يراهن غيرهم كما هو قول جمهور المفسرين.
ثم إن على الإخوة الرجال أن يتذكروا أن زوجاتهم من رعيتهم التي سيُسألون عنها، فلا يترك الزوج لزوجته أمر خروجها على غاربه، وله أن يمنعها إن أكثرت من الخروج، ورضي الله عن عمر الذي كاد يمنع زوجه من الخروج إلى المسجد من غيرته لولا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم منعهن؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «كانت امرأةٌ لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة في المسجد، فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: فما يمنعه أن ينهاني؟ قالوا: يمنعه قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)» [رواه البخاري].

فلا بأس بالتزاور بين المسلمات، ولا بأس بالتزاور لصلة الأرحام، ولا بأس بالذهاب إلى السوق ولكن دون إفراط، فيكون الخروج طارئا على الأصل الذي هو القرار، والمؤمنة في خدرها أقرب ما تكون من ربها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ (١/٢) سيدات بيت النبوة، زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا ...

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ

(١/٢)
سيدات بيت النبوة، زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- أتقى النساء وأنقاهن وأعفهن وأطهرهن وأورعهن، يخاطبهن الله -عز وجل- من فوق سبع سماوات، فتأتي الوصايا والآداب الربانية واضحة صريحة، لا تحتاج تفسيرا ولا تأويلا لمن فتح الله على بصيرته، ومن تلك الوصايا والآداب وصية جاءت بصيغة الأمر، ألا وهو: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، وفي قراءات أخرى: {وقِرْنَ} بكسر القاف، وقال بعض أهل التفسير بأن معنى القراءتين واحد وكلاهما يعني القرار والاستقرار والمكوث في البيت، وإذا كان الآمر هو الله -تبارك وتعالى- فلا يملك المؤمنون والمؤمنات من أمرهم سوى أن يقولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، فلماذا لا تقر معظم نساء اليوم في بيوتهن كما أُمرت بذلك خير النساء؟ ويكثرن الخروج من البيت لغير حاجة ولا ضرورة؟
إنه ضعف الوازع الديني في تلقي مثل هذه الأوامر، والالتزام بها في مواجهة لذة الخروج إلى الدنيا الخضراء زعموا.

وقد يقول قائل أو قائلة إن الخطاب بأمر القرار خاص بنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تدخل فيه غيرهن من النساء، فيجيبهم القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} بقوله: «معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة».

وقال ابن كثير، رحمه الله: «هذه آداب أمَر الله تعالى بها نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ونساء الأمة تبع لهن في ذلك».

بل إنه إذا كانت هذه وصية الله -عز وجل- لنساء النبي خير النساء وأسلمهن قلوبا، وأحفظهن لمحارم الله، فكيف بمن هن دونهن من النساء؟
وإنا لا نتألى على الله تعالى، ولا نحرم ما أباحه -والعياذ بالله- والله لطيف بعباده رحيم بهم، فهو لم يحرم الخروج على المرأة من بيتها مطلقا، وإنما جعل مكوثها في بيتها هو الأصل، وأما خروجها منه فيكون بقدر الحاجة، وهذه الحاجة تقدرها المرأة نفسها والله -عز وجل- {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
والسنة زاخرة بالأحاديث الدالة على إباحة خروج المرأة، كخروجها طلبا للفُتيا، وخروجها في الغزو تسقي الماء وتداوي الجرحى، وكذلك خروجها لزيارة صويحبات لها، أمّا أن يصبح هذا الخروج دأبا وعادة، فهذا ما ينافي الشرع ويشذ عن الأصل الذي هو القرار في البيت.

• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

رسالة في النفاق للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب مختصرة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما ...

رسالة في النفاق
للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
مختصرة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله

اعلم -رحمك الله- أن الله تعالى منذ بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- وأعزّه بالهجرة والنصر، صار الناس ثلاثة أقسام: قسم مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم كفار: وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم منافقون: وهم الذين آمنوا به ظاهرا لا باطنا، ولهذا افتتح الله سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين.
وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشُعب كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسّره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في الحديث المأثور عنه، فمن النفاق ما هو نفاق أكبر ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أُبيّ وغيره، مثل أن يُظهِر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المَسَرَّة بانخفاض دينه، أو المَسَاءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر موجود في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده أكثر من عهده لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها والنفاق موجود، فوجوده فيما دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.

وأما النفاق الأصغر، فهو نفاق الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدَّث، ويُخلف إذا وعد، أو يخون إذا ائتُمِن، للحديث المشهور عنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِنَ خان، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) [رواه مسلم].

ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين لقوله، صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق) [رواه مسلم].

وقد أنزل الله سورة براءة التي تُسَمَّى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين كما قاله ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «هي الفاضحة، ما زالت تنزل {وَمِنْهُم} {وَمِنْهُم} حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذُكِرَ فيها»، وعن المقداد بن الأسود قال: «هي سورة البَحُوث، لأنها بحثَتْ عن سرائر المنافقين»، وقال قتادة: «هي المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين».

وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره، فكشف فيها عن أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن والبخل، فأما الجبن، فهو ترك الجهاد، وأما البخل، فهو عن النفقة في سبيل الله.

وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]، وقال: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].

فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع، فقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجؤون إليه مثل المعاقل والحصون، {أَوْ مَغَارَاتٍ} يغورون فيها كما يغور الماء، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو الذي يُتكلف الدخول إليه ولو بكُلْفَة ومشقة، {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} عن الجهاد، {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56-57]، أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجَمُوح الذي إذا حمل لم يرده اللجام.

وقد قال تعالى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد، وقال تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 44-45]، فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟

وقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، فإذا كان هذا ذَمُّ الله -تبارك وتعالى- لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟

وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة، تارة يقولون للمؤمنين: «هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم!» وتارة يقولون: «أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا، ما أصابنا هذا!» وتارة يقولون: «أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم!» وتارة يقولون: «أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم وتهلكوا الناس معكم!»
وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي، فأخبر الله عنهم بقوله، عز وجل: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 20]، فوصفهم -تبارك وتعالى- بثلاثة أوصاف؛ الأول: أنهم -لخوفهم- يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن. الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا تَمَنَّوْا أن لا يكونوا بينكم، بل في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: «أيش خبر المدينة؟ وأيش خبر الناس؟» الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا، وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا، وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more

إلى ملحمة دابق الكبرى (٣/٣) هذه هي أحداث ملحمة دابق الكبرى، جهاد واجتهاد، قتل وقتال، ألم وأمل، ...

إلى ملحمة دابق الكبرى

(٣/٣)
هذه هي أحداث ملحمة دابق الكبرى، جهاد واجتهاد، قتل وقتال، ألم وأمل، وليس على الموحّد المجاهد سوى الصبر واليقين في رباطه وقتاله حتى يفرّق الله كلمة أعدائه ويشتّت بين قلوبهم ويخالف بين وجوههم ويلقي بأسهم بينهم، فيضرب بعضهم رقاب بعض، و{عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}، وما هذه الأحداث العظام في الشمال الشامي -في دابق وما حولها- إلا من إرهاصات الملاحم المقبلة -إن شاء الله- التي ستُرغم الصليبيين -عاجلا أو آجلا- على القبول بشروط جماعة المسلمين، وبعدها وما يتبعها من نصر، يغدر الصليبيون، فتكون ملحمة دابق الكبرى.

واليوم تتجدّد الخلافات القديمة في صفوف أعداء الله، فصليبيو الغرب يخالفون صليبيي الشرق، واختلف أولياؤهم المرتدون، فالأتراك يخالفون الأكراد، وصحوات تركيا تخالف صحوات الأردن، والرافضة يخالفون أكراد العراق، وأكراد الغرب يخالفون أكراد الشرق، والنصيرية يخالفون أكراد الشام، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].

وهذا الكر والفر في دابق وما حولها -»معركة دابق الصغرى»- ستنتهي بملحمة دابق الكبرى، لا محالة، بعد أن يأتي تأويل ما وعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- واقعا، من صلح بين المسلمين والروم ثم غدر الروم بهم، وبعده فتح القسطنطينية (ثم رومية).

عن أبي هريرة، رضي الله عنه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سمعتم بمدينةٍ جانبٌ منها في البر وجانب منها في البحر؟) قالوا: نعم، يا رسول الله؛ قال: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق [وقال بعضهم: المعروف المحفوظ: (من بني إسماعيل)]، فإذا جاءوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط أحد جانبيها -قال ثور: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر- ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون المغانم، إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج! فيتركون كل شيء ويرجعون)» [رواه مسلم].

جعله الله على أيدي مجاهدي الخلافة، وكما قال الشيخ أبو مصعب الزرقاوي، تقبله الله: «نجاهد هنا وعيوننا على القدس، ونقاتل هنا وأمدنا روما، حسن ظن بالله، أن يجعلنا مفاتيح البشارات النبوية والأقدار الإلهية» [رياح النصر]، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 50
الخميس 12 محرم 1438 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...more