يقول الله تعالى: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ...

يقول الله تعالى:
(وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ)[الأنفال: ٧٤]
إن الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده المكلفين، وهو المنهج الذي يستقيم به حال أهلِ الاكتساب، كاستقامة حال أهل الاضطرار والأسلاب، فكانت رسالته مخاطبة لكل الأقوام، وأحكامه صالحة لكل زمانٍ ومكان، وكتابه معجزة خالدة، حمله سيد الخلق والأكوان، لهداية البشرية إلى الحق والجِنان، وإنقاذها من الضلال والنيران، في رحلة زمانيةٍ مكانية استمرت لأكثر من عشرين سنة، تمثّلت بسيرة طيبة عطرة كانت سراجاً منيراً لكل الخلق في كل زمانٍ ومكان.
في هذه المسيرة الخالدة رافقَ سيدَنا محمداً صلى الله عليه وسلم رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وصحبَه صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة العظيمة رجالٌ ضحوا بالتجارة والبيع في سبيل الله تعالى ونصرته، اجتباهم واصطفاهم ربنا سبحانه وتعالى لحمل وتبليغ الرسالة الخاتمة، مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
((إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ..))(مسند أحمد: ٣٦٠٠ / جزء ٣ – صـ ٥٠٥)
والصحابة رضي الله عنهم هم أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وأفضلهم أهل بدر، وأفضلهم العشرة المبشرين بالجنة ، وأفضلهم الخلفاء الراشدين الأربعة، وأفضل الخلفاء حضرة الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، وثانيهمالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما هو مقررٌ عند أهل السنة والجماعة الغر المحجلين، المنضويين تحت لواء سيد المرسلين، الواردين على حوضه صلى الله عليه وسلم يوم الدين، جعلنا الله وإياكم منهم ومعهم وفي زمرتهم، بخلاف من شذ عنهم وانحرف عن سبيلهم وخرج عنهم فهؤلاء مبعدون مطرودون، حفظنا الله منهم وسلمنا من ضلالهم وشرورهم، آمين بجاه النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.. والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية، وشخصية فذة فاقت العظماء عبر التاريخ يكفي قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً عمر:
«إِيهًا يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»(صحيح البخاري: رقم الحديث: ٣٦٨٣)
والأحاديث الشريفة التي تبين لنا فضل ومنزلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرة وفي هذه المقالة نقف مع هذه الشخصية العظيمة ومع شيء من سيرته الكريمة.
حياته في ظل النبوة
إسلام عمر صفحة منيرة من كتاب الإسلام المضيء، فعمر معروفٌ بشجاعته وقوته وصدقه وصراحته ومنزلته، فهو من خيرة الرجال في الجاهلية، ويقول صلى الله عليه وسلم:
(خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)(أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيهما وأحمد في مسنده)
وما أنْ ظهر لعمر أحقية الإسلام حتى فَقِهَ أمره فاندفع إليه بكل قوته، مظهراً لهُ بكل جرأته، مجاهراً بالدعوة، متحدّياً كل أعدائها، كما في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سألت عمر: لأي شيء سُميتَ الفاروق؟ فذكر عمر رضي الله عنه قصة إسلامه ثم قال: قلتُ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألسنا على الحق إنْ مِتنا وإن حَيِينا؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم» قال: فقُلنا: ففيمَ الاختفاء؟!، والذي بعثك بالحق لَتخرُجَنَّ، فأخرجْنَاه في صفَّين، حمزة في أحدهما وأنا في الآخر، له كديدٌ ككديد الطحين (الكديد: التراب الناعم، والطحين: المطحون، كما في: النهاية في غريب الحديث والأثر)، حتى دخلنا المسجد،
قال: فنظرتْ إليَّ قريشٌ وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يُصبهم مثلها، فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ الفاروق، وَفُرِّقَ بين الحق والباطل(الحلية لأبي نعيم: ١/٤١، أسد الغابة: ٤/٥٥)
وكان إسلامه رضي الله عنه نصرةً للضعفاء من المسلمين، كما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
«ما زلنا أعزةً منذُ أسلم عمر رضي الله تعالى عنه»(صحيح البخاري: ٣٦٨٤)
ولما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة الكبرى مع الأنصار أذن للصحابة رضي الله عنهم بالهجرة إلى المدينة، فبادر عمر لتلبية التوجيه النبوي الشريف ليكون له دورٌ في بناء دولة الإسلام، فأعلن هجرته بصوتٍ مجلجل على الملأ من قريش، كما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(ما علمتُ أنْ أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لَمّا هَمَّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّبَ قوسه، وانتضى في يده أسْهُمًا، واختصر عَنْزَتَه، ومضى قِبَل الكعبة، والملأُ من قريش بِفِنائها، فطاف بالبيت سبعًا متمكّنًا، ثم أتى المقام فصلّى متمكّناً، ثم وقف على الحِلَق واحدةً واحدةً، فقال لهم: شاهَتِ الوجوه، لا يَرْغَمُ الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تَثكلَه أمُّه، ويُوتم ولَدَه، ويُرمّل زوجَتَه، فليَلقني وراء هذا الوادي، قال علي: فما تبِعه أحدٌ إلا قومٌ من المستضعفين عَلَّمهم وأرشدهم ومضى لوجهه)(ابن الأثير أسد الغابة: ٤/٥٨، أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٤٤/٥٢)
فهاجر وهو يردد: ألسنا على الحق إنْ متنا وإن حيينا، ورافقه عشرون من المهاجرين الضعفاء. وفي المدينة لازم النبي صلى الله عليه وسلم، متأدّباً مع جنابه الشريف موقِّراً له، منافحاً عنه، فكان سيفاً مُصْلتاً على أعدائه، وفي هذا قصص وأحداث كثيرة، وكان يحرص رضي الله عنه على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته وصلواته وحجه وعُمرته، فيقف في الصف الأول على يمينه صلى الله عليه وسلم، فكان العابد الناسك، والصالح الزاهد، الورع التقي، البر الزكي رضي الله عنه وأرضاه، ويحضر مجالس القرآن والسنن ويتلقى العلم، وكان القارئ والمفسر، والمحدث والفقيه المجتهد، ويجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحضر الغزوات كلها، ولم يغب عن واحدة منها.
حياته في صحبة الصديق
سبحان من خصّ عمر بن الخطاب بصفات لا تجدها في غيره، حيث فرّق الله به بين الحق والباطل، وكما عهدناه فإن له في تاريخه مواقف عظيمة، كان له دوراً كبيراً في تاريخ الإسلام والأمة، فبعد انتقال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان لا بد من إمام للمسلمين، فكانت حادثة السقيفة، التي دار فيها حوارٌ، حتى أنه كَثُر اللغط، وخيف الاختلاف، فبادر عمر رضي الله عنه قائلاً: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الأَنْصَارُ، فكان قطب الحدث، والعامل على سد ثغرته، وإسنادِ الأمر إلى أهله، بتولية الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، مستشهداً ومستنيراً للحق بفعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قَالَ:
(يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟! فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ)(أخرجه الإمام النسائي: ٨٥٥، والإمام أحمد: ١٣٣)
وكان عمر وزير الصديق رضي الله عنه، معيناً له بعلمه وفعله وقوله، ومواقفه كثيرة؛ كحروب الردة، وجمع القرآن، وتحديد راتب الخليفة، وتولي القضاء في المدينة، وتسيير شؤون الفتوحات، وغيرها كثير.
ولايته أمر المسلمين
حين دنت وفاة الصديق رضي الله عنه، تشاور الصحابة الكرام في أمر المسلمين، وانتهوْا بعهد الولاية إلى عمر رضي الله عنه، فكان نعم العهد والمعهود إليه، حيث أنه كان قويًّا في عمله، أسس الدولة على أركان (الشورى والعدالة والمساوة والحرية والأمانة والجهاد والقوة) وأنشأ الدواوين ونظام العسس وفي كل واحدة منها يمكن أن تكتب صفحات وصفحات..
من أقواله التي تظهر شيئاً من شخصيته
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحراراً.(فتوح مصر لابن عبد الحكم: ١٩٥، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ٩٧)
وَلَسْتُ أَدَعُ أَحَدًا يَظْلِمَ أَحَدًا وَلا يَعْتَدِي عَلَيْهِ حَتَّى أَضَعَ خَدَّهُ عَلَى الأَرْضِ، وَأَضَعُ قَدَمِي عَلَى الْخَدِّ الآخَرِ حَتَّى يُذْعِنَ لِلْحَقِّ.(الرياض النضرة في مناقب العشرة: صـ ٢٧٢، جـ ٢) وإني بعد شدتي تلك أضعُ خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف(سير السلف الصالحين للأصبهاني: ١٢٨، وتاريخ دمشق لابن عساكر: ٤٤/٢٦٥)
اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يديَّ على من قال الحقَّ من قريبٍ أو بعيدٍ، فلا تُمهلني طرفةَ عين.(حلية الأولياء: ٦/١٣٨، وشعب الإيمان: ٩/٥٠٨)
الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الذي إذا رأى مني أمراً يُنكره، قوَّمني.(مصنف ابن شيبة: ٧/٩٩، رقم: ٣٤٤٨٨)
كان أكله الزيت في عام الرمادة وحَرَمَ نفسه السمن، وكانت بطنه تقرقر، فينقرها بإصبعه ويقول: تقرقر ما تقرقر، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس،
وحين أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَجَعَلَ يَأْكُل مِنْهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ، وَيَقُولُ: «وَاللَّهِ لَتُمَرَّنُنَّ أَيُّهَا الْبَطْنُ عَلَى الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ مَا دَامَ السَّمَنُ يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِّ»(الجوع لابن أبي الدنيا: رقم: ٢٨)(الجوع لابن أبي الدنيا: رقم: ٢٨)
يا عبد الله بن عمر ضعْ خدّي بالأرض، "وَيْلِي وَوَيْلٌ لِأُمِّي إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لِي"(الزهد لأبي داود: رقم الحديث: ٤٣)
كان حازمًا مع أقاربه عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: (كَانَ عُمَرُ إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ قَالَ: جَمَعَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: "إِنِّي قَدْ نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ كَمَا يَنْظُرُ الطَّيْرُ إِلَى اللَّحْمِ، فَإِنْ وَقَعْتُمْ وَقَعُوا، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا، وَإِنِّي وَاللَّهِ أَنْ أُوتَى بِرَجُلٍ مِنْكُمْ وَقَعَ فِيمَا نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْهُ إِلا أَضْعَفْتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ مَكَانَهُ مِنِّي (أي لمكانه وقربه مني)، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَتَقَدَّم، وَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَتَأَخَّر")(طبقات ابن سعد: ٣/٢٨٩، تاريخ مدينة دمشق: صـ ٣٥٨، جـ ٢٤)
هيّنًا ليّنًا مع الناس، سخيًّا كريمًا في البذل والعطاء لعامة الرعية من غير محسوبية، ورِعًا محافظًا على أموال المسلمين: عن ابن البراء بن معرور قال:
(أن عمر رضي الله عنه خرج يوماً حتى أتى المنبر، وقد كان اشتكى شكوى له، فنُعِتَ له العسلُ، وفي بيت المال عُكّة، فقال: إنْ أذِنتم لي فيها أخذتُها، وإلا فهي عليَّ حرام! فأذنوا له فيها)(تاريخ الطبري: المجلد الثالث، صـ ٦٣، طبعة دار الفكر)
مستعظماً المسؤولية والأمانة التي أوكِلَتْ إليه، يقول رضي الله عنه:
«لَوْ مَاتَ جَمَلٌ ضَيَاعًا عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُ»(طبقات ابن سعد: ٣/٣٠٥)
وكانت مصلحة الناس شغله الشاغل، وكان يتفقدهم في الليل والنهار، روى الأَوْزَاعِيُّ رحمه الله تعالى: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ خَرَجَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، فَرَأَهُ طَلْحَةُ، فَذَهَبَ عُمَرُ فَدَخَلَ بَيْتًا ثُمَّ دَخَلَ بَيْتًا آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَلْحَةُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَإِذَا بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ، فَقَالَ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟»(حلية الأولياء: ١/٤٧)
وكان رضي الله عنه يُخفي خلف شدته التي اشتهر بها رقّة عجيبة، ظهرت في كثير من المواقف والأحداث، كما في قصة الصحابي أمية بن الأسكر الكناني، الذي كان له ابن اسمه كلاب هاجر إلى المدينة في خلافة عمر، سائلاً عن أفضل الأعمال، فأجابه طلحة والزبير رضي الله عنهما: الجهاد، فطلب من عمر أن يشارك في الغزو، فأرسله في الجند إلى الفرس، ثم اشتاق إليه أبوه وقد عَميَ، فأنشد أبياتٍ رقيقة تصف حاله، ولما سمعها عمر أبكته وبادر بالكتابة إلى أبي موسى الأشعري ليردّ كلاب إلى المدينة، فلما قدم ودخل عليه سأله عمر: كيف برّك بأبيك؟ فقال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت أعْتَمد إذا أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في إبِله وأسمنها فأُريحها وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها حتى تبرُد، ثم أحتلب له فأسقيه، فبعث عمر إلى أبيه فجاءه، فدخل عليه وهو يتهادى، فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم، كنتُ أشتهي أن أرى كلاباً فأشمه شمةً وأضمّه ضمةً قبل أن أموت، فبكى عمر وقال: ستبلغ في هذا ما تحب إنْ شاء الله تعالى، ثم أمر كلاباً أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه، ففعل، وناوله عمر الإناء، وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب! فأخذه، فلما أدناه من فمه قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشمُ رائحة يديْ كلاب! فبكى عمر وقال: هذا كلابٌ عندك حاضر وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمّه إليه وقبّله فجعل والحاضرون يبكون، وقالوا لكلاب: الزم أبويك، فلم يزل مقيماً عندهما إلى أنْ ماتا) (الإصابة: ١/٢٦٥، الوافي بالوفيات: ٩/٢٢٥)
لقد كان رضي الله عنه أبا العيال، وكان يمشي إلى اللواتي غاب أزواجهن فيقف على أبوابهن ويقول: ألكنّ حاجة؟ أيتكنّ تريد أن تشتري شيئاً؟ فإني أكره أن تُخدعن في البيع والشراء، فيرسلنّ معه بجواريهنّ، فيدخل السوق ووراءه الجواري والغلمان، فيشتري لهن حوائجهنّ، والتي ليس عندها مال يشتري لها من عنده. (الرياض النضرة في مناقب العشرة: ٢/٣١٦)
ذات ليلة كان يعُسّ في المدينة بالليل فرأى امرأةً من الأنصار تحمِل قِربة، فسألها عن شأنها، فذكرت أن لها عيالاً، وأن ليس لها خادم، وأنها تخرج في الليل فتسقيهم الماء، وتكره أن تخرج في النهار، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، وقال: اغدي على عمر غدوةً يُخدِمك خادماً، فقالت: لا أصِلُ إليه، قال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى، فغدت عليه فإذا هي به، فعرفت أنه الذي حمل قربتها فذهبت تولّي، فأرسل في أثرها، وأمر لها بخادم ونفقة. (سراج الملوك: صـ ١٣١)
شهادته
كان يدعو الله تعالى:
(اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم) (صحيح البخاري: ١٨٩٠)
ويقول:
(اللهم لا تجعل قتلي على يدي عبدٍ قد سجد لك سجدةً يُحاجُّني بها يوم القيامة) (حلية الأولياء: ١/٥٣)
وقد أجاب الله دعوته، فطعنه الحاقد أبو لؤلؤة المجوسي بخنجرٍ ذي رأسين، في المسجد عند صلاة الفجر، فاحتُمل إلى بيته، وكانت مصيبة عظيمة وقعت بالناس، فأعطي لبناً فشربه فخرج من جُرحه، فعلموا أنه ميت، بقي بعدها أياماً ثم توفي، وكانت وفاته في شهر محرم، وكان قدراً مقدوراً، ودفن رضي الله عنه في الحجرة الشريفة بجوار سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وصاحبه الصديق رضي الله عنه، أفضل موضعٍ في الكون إلى يوم الدين، وقد بكتْه المدينة وأهلها، فبموته ثُلِم الإسلام ثلْمةً لا تُرتق إلى يوم القيامة.
فقد كان رضي الله عنه من عباقرة السياسة والإدارة والاقتصاد والقيادة، ومن الشخصيات الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية..
فشخصية عمر رضي الله عنه تتطلب منا الوفاء لها، وهذا الوفاء يكون بامْتثالِ أخلاقه، وسلوك طريقه، من حيث الغيرة على الدين والمسلمين وأموالهم وأعراضهم، ومن العدل بين الناس وإنصافهم وإن كان من أنفسنا، ومن الجهر بالحق والجرأة فيه وتربية جيلٍ حر أبيّ، والرحمة بالناس والشفقة على المساكين والأرامل، ومن إيكال الأمر إلى أهله من غير محسوبية أو اعتمادٍ على الأكثر ولاء؛ بل على الأكفأ والأتقى، وكفّ المتطاولين والمتعالمين، والكثير الكثير التي نحن أحوج ما نكون إلى تذكارها وإحياءها فينا.
فحري بنا أن نتذاكر سيرته وأيامه وإنجازاته التي نفخر بها، حتى نرسخ في أجيالنا عظمة الإسلام وعظمة حملته، من خلال أولئك الرعيل العظيم جزاهم الله عنا كل خير.
https://arabicdawateislami.net/blog/273